إعداد : د. سليمان المدني |
منعاً للالتباس الحاصل عند الكثيرين حول عالم الجن ومدى قدراته الحقيقية في التجسد والتأثير على البشر، رأيت أن أتقدم بهذه الحلقة الأولى من السلسلة التوضيحية علها تكون نبراساً لنا قبل الإدلاء بأية وجهة نظر تتعلق بالجن والشياطين، إن البحث عن حقيقة الجن والشياطين يتطلب منا استحضار بعض الآيات القرآنية الكريمة التي تحدثت عن الجن والشياطين بطريقة أو بأخرى. لأن الكتب السماوية عموماً هي المصدر الأكثر مصداقية عن تلك الكائنات خاصة وأنه لا يمكن للعلم الحديث حتى الآن وبشتى وسائله العلمية والمخبرية أن يؤكد وجود أو عدم وجود تلك المخلوقات، ولدرجة نفى فيها الكثير من العلماء الماديين إمكانية وجودها، وإن كان ذلك يتعارض مع المعتقدات الإيمانية لشتى الرسالات السماوية.
كائنات مكلفة
لم يؤكد القرآن الكريم وجود الجن والشياطين فحسب بل أسهب في مواضع كثيرة بوصفها وشرح قدراتها التأثيرية على البشر عموماً، فقد جاء في قوله تعالى:
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } ( الرحمن - 33)
ليؤكد لنا بأن الجن مخلوقات عاقلة ومكلفة، بل هي أكثر قدرة علمية من البشر لكونه ذكرها قبل الإنس، وأنه سبحانه وتعالى يخاطبها كما يخاطب البشر الند للند، ويتحداها كما يتحدى البشر في القدرة على النفوذ من أقطار السماوات والأرض، مؤكداً لها وللبشر بأن القدرة على النفوذ لا تتم إلا بسلطان، وهو العلم أو ما شابهه من القدرات. مما يعني امتلاكها للعلم والقدرات الخارقة التي تفوق القدرة البشرية.
بمعنى أن للجن علومه ومعرفته وتقنيته الإبداعية كما عند البشر تماماً، بل وربما أكثر، وهناك من يرى بأن الأطباق الطائرة وزوار الفضاء المزعومين هم من بعض جماعات الجن الذين يظهرون لنا بهذه الصفات لإيقاعنا بالمزيد من الضلالات والجهالات.
إضافة إلى أن الجن مخلوقات مكلفة كالبشر، ولهم أنبياؤهم وكتبهم السماوية، كما يتضح لنا ذلك من قوله تعالى:
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } ( الأنعام - 130).
لاحظوا معنا كلمة رُسل منكم، إنها تؤكد أن هناك رسل من الجن أرسلها الله سبحانه وتعالى للجن ، كما أن هناك رسل وأنبياء من الأنس أرسلها سبحانه وتعالى للبشرية جمعاء إضافة إلى أن الدين الإسلامي الحنيف والقرآن الكريم أرسل للإنس والجن على السواء تأكيداً لقوله تعالى:
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً } ( الجن - 1، 2) .
ولا يتوقف الأمر الإلهي على تكليف الجن بما كلف به البشر تأكيداً لقوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات - 56).
بل يتعدى ذلك ليؤكد لهم نفس الوعيد الذي وعد به البشر يوم القيامة والبعث والحساب كما جاء في قوله تعالى:
{ فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } (مريم - 6)
وقوله أيضاً :
{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } (الأنعام - 128)
يستدل مما سبق أن الجن كائنات عاقلة واعية ومكلفة مثلها مثل البشر تماماً، وأنها ستحاسب يوم القيامة عن أفعالها كما يحاسب بني البشر، وأن منها الخَيِّر ومنها الشرير لقوله تعالى:
{ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } ( الجن - 11)
حقيقة التجسد
وإن كانت الجن غير ظاهرة للعيان بسبب كونها تعيش في مرتبة اهتزاز مختلفة عن مرتبة اهتزاز حياتنا المادية، إلا أنها قادرة على التشكل والتجسد بصور مادية شتى منها الصورة البشرية، إضافة لقدرتها على التشكل بهيئة الحيوانات كالكلاب والحمير والقطط والأفاعي والصراصير والفئران، وقدرتها على التشكل بصور الحشرات والهوام كالبعوض وغيره. ومن جهة أخرى يؤكد القرآن الكريم تجسد الجن والشياطين لسيدنا سليمان عليه السلام :
{ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } (النمل - 17).
نلاحظ هنا أن جنود سليمان كانوا من الجن أولاً والإنس ثانياً، وبعدها من الطير، إلا أن ما يسترعي الانتباه كون الجن والإنس كانوا يعملون في جيش سليمان متساوين ومتعاونين ويرى بعضهم بعضاً، ولو لم يكن جنوده من الإنس قادرين على رؤية أندادهم من الجن لما تمكنوا من العمل معاً.
ورب قائل يقول أن هذه الحالة كانت استثنائية لنبي الله سليمان عليه السلام، وأن لا أحد يرى الجن غيره، إلا أن الآية الكريمة توضح لنا ضرورة أن يرى الإنس الجن طالما يعملون معاً وفي مهمة مشتركة، وتؤكد الآيات التالية ضرورة ذلك.
قال تعالى:{ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } ( النمل - 39، 40).
حيث نرى أن العفريت والذي عنده علم الكتاب وهو من البشر يحضرون مجلس نقاش مع سليمان عليه السلام، وهذا يتطلب أن يرى بعضهم بعضاً، ومع ذلك يمكن أن يكون تجسد الجن المادي في هذه الحالة على غير صورته الأصلية والله أعلم.
ويؤكد سيادة سيدنا سليمان عليه السلام على الجن قوله تعالى:
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } (الأنبياء - 82) وكذلك قوله تعالى:
{ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } ( سبأ - 12)
يتضح هنا أن عمل الجن بإمرة نبي الله سليمان كان بإذن من الله سبحانه وتعالى وأمره، لأنه كان يهدد من لم يمتثل منهم لإرادة سليمان بعذاب السعير.
أما قوله تعالى: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } فتؤكد القدرة العاملة للجن والتي لا تتم إلا بتجسد حقيقي وربما يرجح تفسير هذه الآية الآراء التي تقول بأن عمل الجن مع سليمان وتجسدهم آنذاك هو حالة استثنائية لإرادة إلهية والله أعلم.
وقد روى البخاري ومسلم أن عِفْريتًا من الجن تفلَّت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد أن يقطع عليه صلاته، فأمسَك به وخَنَقَه، وأراد أن يربِطه في سارية من سواري المسجد، لكنه تذكَّر دعوةَ أخيه سليمان، فأطلقه. وجاء في رواية مسلم قوله: والله لولا دعوةُ أخي سُليمان لأصبح مُوثقًا يلعب به وِلْدانُ أهل المدينة، وفي رواية النسائي بإسناد جيد أنه خنقه حتى وجد بَردَ لسانه على يده.
وتوضح هذه الحادثة إمكانية تجسد الجن لغير سليمان عليه السلام ، ولكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتأدباً منه، لم يشأ منافسة نبي الله سليمان عليه السلام فيما اختصه الله سبحانه وتعالى، وكان نبي الله سليمان قد خاطب ربه بقوله:
{ وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ }
وقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أن تجسد الشيطان في أكثر من موضع وبصور لأشخاص معروفين وأشخاص غير معروفين.
وقد حدث أن كان رسول الله صلى الله عليـه وسلم يحـدث أصحـابه فيدخل عليهم رجل غريب، نتن الرائحة، قبيح المنظر، مقطـع الثيـاب فيخبرهـم النبي صلى الله عليه و سلم أنه الشيطان جاء يشككهم في أمر دينهم.
وهنالك قصة أبو هريرة رضي الله عنه، وقصة الرجل النجدي، وقصة تجسد الشيطان في صورة سراقة بن مالك، وكذلك قصة عمار بن ياسر، وغيرها الكثير من القصص التي يزخر بها التراث الإسلامي الذي يؤكد بمجمله إمكانية تجسد الجن والشياطين بهيئة بشرية أو بغيرها.
أما في عصرنا الراهن فكثيرة هي مشاهداتنا للجن، وإن كنا لا ندري حقيقتها أثناء لقاءنا معها، فهي قد تتجسد لنا بصورة بشرية أو على هيئة حيوان أو غيره. كما تتجسد للبعض بشكل مرعب ومخيف كالأشباح التي يزداد الحديث عنها على مر العصور، والبيوت التي يقال أنها مسكونة من قبل الجن والتي تحدث فيها أعمال تخريب وضوضاء وإيذاء وإحراق لأدوات المنازل وصفق لأبوابها وغير ذلك الكثير من الأمثلة التي لا يمكن حصرها.
يتبع..
نبذة عن د.سليمان المدني
يحمل د. سليمان المدني (58 سنة) دبلوم دراسات عليا في الباراسيكولوجيا (ما وراء النفس) من كلية ولاية نيويورك ، ولديه من الخبرة 30 سنة حيث زاول العلاج بطريقة التنويم المغناطيسي واكتسب مع الوقت طرقاً للتمييز بين حالات المس الشيطاني والحالات النفسية الأخرى كما عالج ما يسمى بحالة "المس الشيطاني" بالتنويم المغناطيسي. وأصدر العديد من المؤلفات حول التنويم وتفسير الأحلام والتقمص وآخر مؤلفاته (الصيدلية الروحية) الصادر عن دار دمشق عام 2010 ويزود موقع ما وراء الطبيعة بخبرته في هذا المجال كخبير معتمد فيه.
ملاحظة
ما تقدم يعبرعن رأي خبير معتمد لدى موقع ما وراء الطبيعة له إختصاص محدد، بنى رأيه وفقاً لما توفر له من معطيات، ولكن هذا لا يعني أنه الرأي الوحيد فقد يكون لخبراء معتمدين آخرين رأي مختلف أو يناقض ما أتى ، إدارة الموقع ترحب بتنوع الآراء حيث تجد فيه أمراً صحياً وطبيعياً.
إقرأ أيضاً ...
- رؤية الجن والغدة الصنوبرية
- أنواع الجن
- مملكة الشيطان
- ظاهرة الأشباح والتحديات العلمية
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .