إعداد : كمال غزال |
أصبح لدى الكثير من الناس فكرة عن تجربة الخروج من الجسد والتي تأتي أحياناً لحظة إقتراب الموت ، حيث باتت فكرة الدخول عبر نفق يلفه " النور " أو الطفو فوق الجسد من بين الإنطباعات الشائعة التي غالباً ما تصورها وسائل الإعلام خلال تقديمها لحالة الموت الوشيك NDE أو تجربة مغادرة الجسد OBE ، حيث أنه من الثابت علمياً حصول تجربة الخروج من الجسد للملايين من الأميركيين الذين اعتبروها أدلة على وجود الحياة الأخرى وأنها على أقل تقدير دليلاً على إمكانية إنفصال النفس عن الجسد .
وإذا كان على طبيب أعصاب القيام بطريقة لفحص عمل الدماغ أثناء خضوعه لتجربة روحية من ذلك النوع عندئذ سيتبادر إليه السؤال التالي: " هل يمكن لهذا الفصل الواضح على الدوام بين الوعي والدماغ أن يحقق الجوهر الروحاني ؟ "
قبل أن نتمكن من الإجابة عن السؤال الآنف الذكر علينا أولاً فهم المقصود بوصف "روحي" أو "روحاني" ، ولهذا ننتقل إلى "وليم جيمس " عالم النفس الأمريكي الكبير والفيلسوف الذي ساهم في وضع أسس علم النفس الحديث وبادر بإطلاق "دراسة الذات ". إذ ما زال بحثه في أصناف التجارب الدينية والتي قدم فيها أفكاراً شمولية نقطة ينطلق منها علماء الأعصاب اليوم حينما يريدون النظر إلى العلم والروحانية سوية.
تُعرف خصائص التجربة الروحية وفقاً لوجهة نظر جيمس على أنها مشاعر وأفعال وخبرات الناس الذين أدركوا عن قناعة متأصلة لديهم بأنهم كانوا على إتصال أو مواجهة مع ما يعتبرونه أمر اً مقدساً أو ربانياً .
لا أن هذا التعريف مرن ويفتقر إلى تفاصيل عديدة ، وبهدف توخي الدقة درس جيمس تاريخ الحالات مع التركيز على "خبرة الفرد الأصيلة والتي تتدخل في ضبط أنماط تجربته هادفاً من وراء ذلك إلى تحديد دقيق لملامح التجارب الروحية من الناحية الدينية.
- الآن دعونا نلقي نظرة على عدد قليل من الحالات المدروسة لنعرض تجربة الخروج من الجسد من منظور علم الأعصاب الحديث لنرى ما الذي تخبرنا به تلك التجارب، وهي حالات درسها د.كيفن آر نيلسون مؤلف كتاب "المعبر الروحي في الدماغ " The Spiritual Doorway in the Brain والذي سيطرح للنشر في 30 ديسمبر ، 2010 القادم :
1- تجربة باتريك
كان باتريك أحد مرضى د.نيلسون لسنوات عديدة وذلك قبل أن يخبره بتجربة الخروج من الجسد التي حصلت له ، فبينما كان يقود سيارة اسعاف بصفته خبير فني في حالات الإسعاف الطارئة تعرض لنوبة قلبية نقل على إثرها الى غرفة طوارئ محلية حيث تم التعرف إليه مباشرة . وعندما بدأ قلبه يفشل في عمله أصبح في حالة شلل فارتفع ببطء فوق السرير ذو العجلات. واستمر في الإرتفاع ، أعلى فأعلى إلى درجة مكنته من ملاحظة غرفة الطوارئ بأكملها فيما كان جسده أدنى منه. ولم يمض وقت طويل حتى عاد باتريك بلطف مرة أخرى إلى سريره. وعندما سأله د.نيلسون عن شعوره خلال إرتفاعه و رؤية جسده الذي تركه خلف وعيه أجاب انه كان على وشك الإلتقاء بخالقه.
سيوافق جيمس بلا شك على القول بأن تجربة باتريك كانت "روحية". حيث اعتبر باتريك أن خالقه على وشك إستقباله. ولكن هل سيرى جيمس تجربة كارين بنفس الطريقة ؟
2- تجربة كارين
كارين هي زميلة د.نيلسون في الطب النفسي وسبق أن أطلعته على تجربتها غير العادية ونقصد " تجربة الخروج من الجسد " التي عاشتها ، انتقلت كارين لتوها الى منطقة ريفية من ولاية كنتاكي الامريكية ، حدث ذلك عندما أفرغ أحد حراس الولاية في الشقة المجاورة بندقيته من الأعيرة النارية في ظروف مريبة فكاد يتسبب في إصابة زوجته ، في هذه اللحظات من تلك الليلة لم تكن كارين تشعر بالراحة مطلقاً ، كانت ممدة على السرير وهي بين حالة اليقظة والنوم وبدون هاجس بدأت تطفو عالياً لمسافة عدة أقدام فوق سريرها فالتفتت لترى نفسها و زوجها يتمدد إلى جانبها تحت اللحاف الذي كانت قد صنعته لما كانت عروس جديدة ، وبعد تحويمها في الغرفة على غير هدى ولبضع لحظات مذهلة فإن الشيء الآخر الذي تذكره هو استيقاظها في صباح اليوم التالي.
- تختلف تجربة كارين كثيراً عن تجربة باتريك. وتعتبر كارين تجربتها تلك تجربة إستثنائية وغريبة جداً إلى درجة أن قلة من الناس عرف بها ، وبعد هذا السرد : " ما الذي قد يفكر فيه الناس ؟ " ، فهي لم تكن أثناء تجربتها على صلة مع أي أمر تعتبره دينياً أو ما وراء نفسها !، مالذي قد يفكر فيه جيمس الآن ؟
- هناك أمر هام عن دماغ كارين وهو ما أطلعت عليه لاحقاً د.نيلسون حيث قالت أنها تجد نفسها مشلولة تماماً في بعض الأحيان أثناء صحوها من نومها وهذه الحالة تسمى بـ شلل النوم Sleep Paralysis أو الجاثوم ( بحسب الثقافة الشعبية ) وهي حالة تحدث عندما يجد الدماغ نفسه معلقاً على الحدود بين اليقظة ومرحلة حركة العين السريعة المعروفة اختصاراً بـ REM (المرحلة الخامسة من النوم والتي تحدث يومياً وتظهر فيها الأحلام عادة وتتميز بحركة سريعة للعينين في المحجرين) ، يحدث شلل في الحبل الشوكي لكي لا نتفاعل عضلاتنا مع أحلامنا فتتحرك مما يعرضنا للخطر أو الإصابة ، يعتبر الشلل الذي يغزو دماغنا المستيقظ سمة من سمات مرحلة حركة العين السريعة REM . ومن بين السمات الأخرى حدوث هلوسات بصرية ومن المحتمل أن تكون تجربة خروج من الجسد من السمات الأخرى لـ REM والتي تحدث خلال الإستيقاظ . تجربة كارين تقودنا إلى تجربة "مات "
3- تجربة "مات"
"مات " هو أحد مواضيع البحث التي عكف عليها د. نيلسون وهو شخص يبلغ من العمر 27 سنة ويعاني من حالة الخدار ، وبالاضافة إلى تعرضه لهجمات النوم ، لديه حالة شلل نوم متكررة كما أنه يمر بتجربة خارج الجسد أسبوعياً على وجه التقريب حينما يرقد على سريره. لكن الأمور أصبحت تبعث فيه الخوف كثيراً خلال الليل، فلم يعد يغادر جسده خلال شلل النوم وإنما أصبح يرى هلوسات فتتحول كرة السلة إلى " رأس جثة متعفنة" ، وكائن ظلي يقبع معه وينام بجواره فيصبح غير قادر على تحريك أصغر عضلاته ويهمس في أذنه تهديدات بالموت .
لا يعتبر "مات" تلك الهلوسات أو الوحوش أموراً متصلة بالمعتقد الديني ، إذ لا يلبث أن يدرك لاحقاً في الصباح أنها لم تكن حقيقية، تجاربه في الخروج من الجسد أصبحت مألوفة له حتى أنها تثير فضوله، فتخيلوا لة أنه عاش في العصور الوسطى فبماذا كان سيفكر ؟!
بحثاً وراء تفسير
لم يحدث نقاش علمي حول حدوث تجربة الخروج من الجسد أثناء مرحلة حركة العين السريعة REM فكيف يتحقق ذلك إذن ؟
نعلم من بحوث عالم الأعصاب أولف بلانك في سويسرا أنه لو مرت نبضة من الكهرباء أقل بـ 100 مرة من التيار الكهربائي الذي يسري في مصباح كهربائي باستطاعة 60 وات في الجزء الأيمن من الدماغ فإنها تتسبب في حدوث تجربة الخروج من الجسد في زمن لا يستغرق الضغط على زر . هذا الجزء من الدماغ يسمى المنطقة الصدغية والتيار الكهربائي الذي طبقه الدكتور بلانك يعطل حواسنا مما يسمح لنا بأن نعرف موقعنا من الفضاء المكاني . كما يمكن للمنطقة الصدغية التي تربط ما بين الأحاسيس والوعي أن تتوقف عن العمل خلال مرحلة حركة العين السريعة REM وهذا يفسر لماذا تحدث تجربة الخروج من الجسد غالباً خلال تلك المرحلة .
تبين لنا تجارب باتريك والعديد من أمثاله ن الخروج من الجسد يمكن أن يكون تجربة روحية ، ومع ذلك فمن الواضح تماماً أن فصل العقل عن الدماغ لا يتحدث دائماً بلغة الدين .
من خلف هذا الفصل يخبرنا فهمنا لعلم الأعصاب كيفية عمل الدماغ أثناء التجربة الروحية. فتجارب خارج الدماغ هي وهم صنعه الدماغ نفسه ، لماذا ؟ بالتأكيد لأن الشخص يشعر بجسده ويفهم بأن تلك التجربة مستندة على ما يرجوه بالإضافة لأمور متعددة تتعلق بنفسيتهم المستقلة وثقافتهم وتجاربهم الحياتية .
وهذا يقودنا إلى طرح إلى سؤال آخر هام وهو : هل هناك تجارب أخرى تعتبر على الدوام "روحية" ؟ والجواب هو نعم ، هناك أشياء من هذا القبيل ، واعتبرها ويليام جيمس " الجذر والمركز" لكافة التجارب الروحية .
المصدر
إقرأ أيضاً ...
- تجربة الخروج من الجسد والإسقاط النجمي
- تجارب واقعية : دهليز الموت
- فيلم لحظات الموت
- أمثلة عن تجارب الموت الوشيك
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .